back to Dr. Fouad Salloum page

نشر هذا الموضوع في صحيفة النهار بتاريخ 14 آذار 1995

الدكتور فؤاد سـلوم

دكتوراه في التاريخ

إجازة في اللغة العربية وآدابها

---------------------

الدكتور الأب سيزار موراني

دكتوراه في التاريخ

كنيسة سيّدة القلعة، تحفة من الفنّ، تتجلّى بثلاثة عقود وأعمدة مزدوجة وأقواس سريريّة وجدران مزخرفة على الطراز اليونانيّ الكلاسيكيّ، شهدت حقبات ازدهار وفترات أخرى من الحرمان، تنتظر اليوم ان تمتدّ إليها يد كريمة لتعيد إذكاء جذوة الحياة فيها مرّة أخرى. فهل ما يمنع من تأهيل القلعة الصّليبيّة لتكون قبلة لعشّاق الآثار والتّاريخ؟!

 


الموقع

تقع كنيسة سيّدة القلعة في منتصف الطريق الإستراتيجية القديمة التي تربط بين فينيقيا السّاحليّة والدّاخل السّوريّ والتي كانت طريق القوافل والجيوش الغازية وهجرات الشعوب.


من هنا، أهميّة الموقع الإستراتيجية حيث بنيت القلعة، منذ زمن موغل في القدم. والدليل على ذلك القبور الميغاليتيّة المنتشرة بكثافة على ضفّتُي النهر، والتي هي من نوع "دولمام" (DOLMEN) وتعود إلى ثلاثة آلاف عام فبل الميلاد(1). كذلك يوجد في المكان حجر أسود مكتوب عليه اسم إله الحظ اليونانيّ (FORTUNA). وعندما جاء الصليبيّون إلى الشرق أدركوا أهميّة الموقع، فبنوا أو حصّنوا القلعة التي اشتهرت، بعد ذلك باسم "فليس" تعريب لفظة "فاليكس" (FELIX) اللاتينيّة، أي السعيد. وقد أنشأ " الفرسان المضيّفون" (HOSPITALIERS) في قلب القلعة، كعادتهم، كنيسة على اسم شفيعهم مار يوحنا، لا تزال آثارها ماثلة للعيان. لكن سبق أن كان قرب القلعة كنيسة أخرى، أقدم بكثير، على اسم السيدة، بنيت الكنيسة الجديدة مكانه، فسمّيت "سيدة القلعة".


تقوم كنيسة سيدة القلعة (NOTRE DAME DU FORT) اليوم على شريط أو لسان من الأرض البازلتيّة يقطعه خندق اصطناعيّ يفصل القلعة عن الكنيسة وتوابعها. كان يقوم فوقه جسر خشبيّ متحرّك (PONT_LEVIS) يرفع عند الحروب ويعاد أيّام السلم. ويزنّر هذا اللسان من الأرض لجهّة الشمال وادي نهر الكبير الشماليّ قديماً (ELEUTERIUS) حيث تتلوى بكسل ناعس، مياه زرقاء، تعكس أشعّة الشّمس الساطعة،فتلتهب أزهار الدفلى المائلة على الضفّتين وتتوهّج بالألوان أشجار اللوز في الحلول المعلّقة، وترقص بالظلال أحراج القلعة المتدلّية فوق النهر من شاهق، فيبدو للنّاظر مشهداً خلاباً ليس أجمل منه ولا أبهى!


وإلى جهة الجنوب الغربي، ينحدر وادي منجز، بخانق نهريّ، يلفّ الموقع ويلتقي عند طرف اللسان، غرباً، بالنهر الكبير الشماليّ.

 


 

 

روعة الفنّ

في ذلك الموقع الرائع المنعزل، يشاهد الزّائر بناء مرتفعاً، أبيض اللون، تزنّره خطوط من حجارة سوداء، ويغطيه القرميد الأحمر، بينما يشمخ بعرف قانٍ، فوق الجرس، الدّيك المعدنيّ الفرنسيّ (GIROUETTE) يكاد يصيح في كلّ وقت، معلناً اتجاه الريح. وإلى جانبه الشاري، أي لاقطة الصواعق (PARATONNERE) مما يضفي على المكان أنساً وبهجة وأماناً.


إلى جانب الكنيسة، جنوباً، يقوم بناء واسع من طبقتين يضمّ غرف المدرسة. بينما تشكل غرف الرهبان امتداد الكنيسة في معظمها مأخوذة من بقايا القلعة.


أمّا روعة الفنّ فتتجلّى داخل الكنيسة: السقف مؤلّف من ثلاثة عقود، يشكّل كلّ منها حنية مصلّبة، تحملها أقواس مرتفعة تقوم على اعمدة مزدوجة. ومن أواسط تيجان الأعمدة المزدوجة تبرز الأقواس السريرية التي تحمل العقود المصلّبة وتفصل بينها. هذه الأقواس السريريّة مقطعة بالألوان، يتناوب فيها الأبيض والقاتم. والأعمدة المزدوجة حجريّة اسطوانيّة مجصّصة، ومحمولة، بدورها، على أعمدة مثلها، من غير تيجان، تنزل حتى زيح الحائط حيث تركز على قواعدها الحجريّة المستطيلة. والأعمدة هذه مدهونة باللون البنّيّ المموّج، أمّا تيجان الأعمدة، هذه، فتتكوّن من زخرفة بيضاء، على شكل زهرة النيلوفر الجميلة، وتمتد منها أطناف حجريّة تزنّر الجدران، مزخرفة على الطراز اليونانيّ الكلاسيكيّ.


وأمّا أقواس الحنايا المصلّبة، لجهّة الحائط،فهي سريريّة الشكل، تحملها أعمدة أنيقة، صغيرة، مفردة، مجصّصة ومدهونة باللون الأخضر القاتم المموّج، وتلتصق بالحائط تيجانها كورنيشة، وقواعدها محمولة على اطراف تيجان الأعمدة المزدوجة. وبين الأعمدة المزدوجة تنفتح نوافذ مزدوجة، بأقواس سريريّة قائمة على أعمدة مفردة،قصيرة أنيقة، كورنيشة التيجان. هذاالطراز الرومانيّ يغتني بالزخارف الكثيرة وبالألوان المزركشة وبالمشاهد المنوّعة التي يتطعّم بها والتي تشكل ملامح الفنّ الباروكيّ (BAROQUE) (2)، الحبيب إلى قلب الآباء اليسوعيّين، بناة المقام، الذين تربطهم بهذا الفنّ وشائح تاريخيّة. ولا ندري أتلك الوشائح هي التي أوحت اعتماد هذا الأسلوب في ذلك المكان المنعزل، أم أنّ روعة الموقع وغنى الطبيعة فيه، أوحياه إلى الأخ اليسوعيّ تيودور مهندّس الكنيسة؟ (3).


وهكذا توزّعت اللوحات الفنّيّة على الجدران، وحتى الزيح، تزنّره الخطوط الطويلة برسوم هندسيّة متناغمة الألوان. أمّا روعة الفن فتبلغ الأوج في رسوم زجاج الشبابيك الملوّنة، التي تشكّل لوحات طبيعيّة، ورموزاً دينيّة، وأشكالاً هندسيّة. وتسود زهرة السوسن كأميرة بين تلك الرسوم، وهي شعار الملكيّة الفرنسيّة.


المذبح الرّئيسيّ خشبيّ مزخرف بسخاء، غنيّ الألوان، مذهّب بشكل أساسيّ. والمذبحان الجانبيّان من المرمر الأبض، بواجهة من قناطر مثلّثة تقوم على أعمدة دقيقة كورنيشة الطراز.


لكن ما يؤسف له جداً هو أنّ مياه الأمطار تسرّبت بغزارة من الحائط الجنوبيّ وأتلفت رسومه وألوانه وهو يحتاج إلى صيانة ملحّة.

 


 

 

لمحة تاريخيّة
منذ أن وطئت أقدام الصليبيّين أرض عكار، رأوا الموقع وقدّروا أهمّيته العسكريّة، فاستولى عليه أحد أمرائهم المسمّى جيلبير دي بوي-لوران (GILBERT DE PYE_LAURENS) ورمّم القلعة التي لا تزال أطلالها تغطي طرف اللسان الغربيّ، واشتهرت باسم قلعة فالس (CASTEL FELCIUM) وصارت مركز سيادة اقطاعيّة، وتبعتها المناطق المجاورة. لكن لم يلبث بوي-لوران أن باع القلعة من كونت طرابلس ريمون دي تولوز. ثمّ في العام 1142م صارت، هي وحصن الأكراد، مع الفرسان المضيفين"مزحزحي الحجارة الكبار" (GRANDS REMUEURS DE PIERRES ) فازدهرت القلعة وبلغ دورها مجده فكانت صلة وصل بين القلعة البيضاء (CASTEL BLANC) في صافيتا وعرقا وحصن الأكراد. كما لعبت دور الحصن الاقطاعيّ، يلجأ إليه أهل الجوار، ساعة الخطر، إلى أن سقطت في ربيع عام 1271 (4) ممهدة لسقوط حصن عكار، بعد ما يقارب الشهرين من العام عينه تحت ضربات الظاهر بيبرس (5).


بعد سقوط القلعة هجرت الحياة المكان، لكنّ رائحة القداسة وشفاعة العذراء لم تهجراه. لقد بقي المؤمنون على مدار العام ينذرون للعذراء نذورهم، راجين إنعامات الله. وفي كل ثامن من أيلول، ذكرى مولد العذراء، كان يقوم عيد يؤمّه المحتفلون من الأطراف والطوائف، يقومون بالاستعراضات الفولكلوريّة وعلى رأسها ألعاب الفروسيّة. فتجري الخيول في الميدان الواسع الممتد أمام الكنيسة، والذي كان مروضاً وساحة تمارين للعساكر الصليبية (6) وصار اليوم موقفاً للجياد الميكانيكيّة فيتّسع، في الثامن من أيلول لمئات السيّارات.


وتعود بنا الذاكرة إلى العام 1800 منتصف كانون الأوّل، عندما كان حنا صافي، من منجز، يحطّب مع والده على ضفة الوادي، فهبّت عاصفة وتدفقت سيول، جرفت الصبي، فجنّ جنون الوالد! ولما لم يجد حيلة تنقذ ولده التفت إلى السماء ونذر، على اسم السيدة، إنْ هي أنقذت الولد، أن يطعم الحجّاج في عيدها، مدى العمر... وهو ما كان. لأنّ الولد وجد حيّاً بعدما هدأت العاصفة على الضفة الأخرى للنهر الكبير، في قرية العيون في سوريا اليوم.


أيضاً، بناء لنذر آخر، بادر بولس الخوري سليمان من منجز الملقّب بالمريض، إلى بناء كنيسة في المكان، وذلك عام 1877م فانتهت عام 1878.كانت كنيسة بسيطة كبيوت الفلاحين، وأقيمت لها وقفيّة صغيرة، لكنّها صارت تجذب أنظار الناس إليها.


عام 1892 زار الراهب اليسوعيّ الأب برنيه، من وكالة الجمعيّة في حمص المكان وأقام رياضة روحيّة لكهنة المنطقة، فلفت نظره الموقع، وتولّدت لديه فكرة إقامة دير وكنيسة ومدرسة، فباشر السعي فوراً وانتهى البناء كاملاً بعد ثمانية أعوام (7).


عام 1900 دشّنت الكنيسة بمهرجان شارك فيه الناس من الطوائف كلّها في أنحاء لبنان وسوريا. ولعب فرسان عكار الجريد، طوال يومين مما أدهش الجماهير. ومن أطرف ما كان، أن رئيس دير الآباء الكرمليّين في القبيّات، حمّل الأرغن على جمل ونزل إلى السيدة ليشارك بالعزف عليه في ذلك المهرجان (8) .

 


 

 

تاريخ المدرسة

تأسّست مدرسة الآباء اليسوعيّين، في سيدة القلعة عام 1897. كانت في البدء صغيرة يؤمّها أبناء القرى المجاورة. لكن ما أقلق الآباء اليسوعيّين هو منافسة المدارس الأرثوذكسيّة لهم، والتي بدأت تعمل منذ سنين، بدعم الروس، وقد بدأ هؤلاء، أي الروس، يلقون تجاوباً من أبناء عقيدتهم المحلّيّين، إضافة إلى منافسة أخصام جدد هم الأميركيّين البروتستانت الذين أنشأوا مدارس لهم في منيارة والشيخ محمد.(9)


وركّز اليسوعيّون على مدرسة سيدة القلعة لتكون مدرسة نموذجيّة (دار معلّمين) تخرّج مدرّسين يتولّون التعليم في مدارسهم التي أنشأوها، أو ينوون إنشاءها في عكار. فعمّروا مبنى كبيراً بسطح من قرميد، قدّمت نفقته أرملة القنصل الفرنسيّ هربرت فورنيه (HERBERT FOURNIET) تكريماً لذكراه. واستقدم اليسوعيّون معلّمين من تلاميذ كلّيتهم الجامعيّة في بيروت يجيدان اللغة الفرنسيّة، ويجيد أحدهما العربيّة الأدبيّة وقليلاً من التركيّة، إضافة إلى الرهبان الذين بلغوا ثلاثة قسس وأربعة أخوة. وهكذا جعلوا المدرسة ذات نظامين داخليّ وخارجيّ. فضمّ الداخليّ عام 1897 سبعة طلاب والخارجي ثلاثة وثلاثين. أما مواد الدراسة فكانت العربيّة، الفرنسيّة، الحساب، الرياضيّات، التاريخ، الجغرافيا، إلى جانب التعليم الدينيّ والتاريخ الكنسيّ.(10)


وتعاون اليسوعيّيون تعاوناً وثيقاً مع مطران أبرشيّة طرابلس للروم الكاثوليك، لانشاء مدارس وكنائس في القرى التي بدأ يوجد فيها "مرتدّون" (حسب قوله)، كما يتبيّن من رسالة كتبها المطران يوسف دوماني عام 1898، إلى مدير " أعمال الشرق" يطلب مساعدة لتدعيم مدارس منيارة والشيخ محمد ومرمريتا، ولإنشاء كنائس للروم الكاثوليك فيها وفي القرى الأخرى.(11)


وكان التبشير الديني أبرز نشاط لليسوعيّين في عكار. فأسّسوا مدارس ونظّموا رياضات روحيّة، وقاموا بجولات تبشيريّة أثمرت لهم عدداً من الدعوات الاكليريكيّة بين شباب منجز، وتحولاً مهماً إلى الكاثوليكيّة بين عائلات عيدمون الارثوذكسيّة وذلك بعد عام 1918. (12)


وقد أشار الأب لويس شيخو إلى ما بلغته "مدرسة سيدة القلعة" من ازدهار عام 1900 فكتب في "المشرق": "... ثمّ انعقدت... جلسة أدبيّة بالفرنسيّة والعربيّة، قام بها نخبة من تلامذة المدرسة التي هناك .. (13)


وقد كان للآباء اليسوعيّين طموح كبير... لقد كان في نيّتهم التوسّع في اقتناء الأراضي وانشاء مشاريع استثماريّة زراعيّة، وهو ما خطّطوا له، كما يظهر من رسائل الأب بارنيه المذكور. لكن ظروفاً جديدة طرأت مع الانتداب الفرنسيّ، فتخلّوا عن تلك المشاريع وعن سيدة القلعة عام 1924 لمصلحة الرهبانيّة المارونيّة اللبنانيّة. أما السبب فقد صرّح به أحد الرهبان اليسوعيّين كما يأتي: جبل العلويّين يتحرّك واعداً بآمال واسعة. ولتوفير الفعلة له، وجب التخلّي عن سيدة القلعة. (15)


وتابع آباء الرهبنة المارونيّة التعليم في المدرسة بنجاح حتى عام 1940 عندما توقّف عن العمل بسبب الحرب العالميّة الثانية، ولم تستأنف الدروس فيها بعدما كثرت المدارس وانتشرت في كلّ قرية من قرى الجوار.


اليوم، ومرّة أخرى، هجرت الحياة المكان، وعادت العزلة تعانق الموقع الجميل، واستوطنت القطعان مكان طلاب العلم، وغدا ثغاء الماشية نشيداً يختلط بعصف الريح في أشجار الكينا. أما خرير مياه النهر وصفير القبابر، وصداح العنادل، فتتساءل بشوق وحسرة عن قصائد المتنبّي وخليل مطران ولامارتين وفكتور هيكو... التي كانت تتلى هنا ذات يوم! لكن الكنيسة، تحفة الفن، الدير الساكن الصابر، والمساحات الطلقة، تنتظر اليد الكريمة التي تحرّك رماد الهجران فتعيد إذكاء جذوة الحياة مرّة جديدة.


فهل ما يمنع الرهبانيّة المارونيّة اللبنانيّة أن تجعل من الدير، مثلاً، منتجعاً يؤمّه الدّارسون، طالبوا الخلوة، الذين يعدّون لامتحانات صعبة، وأصحاب المؤتمرات العلميّة والثقافيّة، وحركات الشبيبة طالبة التخييم، وطلاب الاستجمام، عشاق الطبيعة الجميلة؟


وهل ما يمنع مديرية الآثار من تأهيل القلعة الصليبيّة، لتكون قبلة للسيّاح والدارسين وعشاق الآثار والتاريخ؟


وهل ما يمنع المعنيّين بالسياحة والرياضة أن يجهّزوا الميدان الواسع العريق، ذا الأرض البازلتيّة الصلبة، لتعود الخيول فتصهل وتجري في أعنّة السلام والمحبّة، في مباريات السباق بين أندية الفروسيّة في لبنان وسوريا والبلاد العربيّة؟


أم أنّ مثل عكار لا يستحق؟

 


د. عفيف موراني
د. فـــؤاد ســــلّوم

 


1. TALON, MAURICE: Les vestiges Megalitiques
2. MUORANI, R.P. AFIF
3. GOUDARD, P. JOSEPH
4. GOUDARD, P. JOSEPH
5. جميل روحي: الدليل الأخضر
6. MUORANI, R.P. AFIF
7. GOUDARD, P. JOSEPH
8. شيخو، الأب لويس رحلة حديثة إلى عكار
9. من رسالة الأب بارنيه إلى رئيسه في روما. أنظر سلوم فؤاد دريب عكار 1850- 1950
10. المرجع السابق
11. المرجع السابق
12. GOUDARD, P. JOSEPH La Sainte vierge
13. شيخو الأب لويس المرجع السابق
14. سلوم فؤاد المرجع السابق
15. GOUDARD, P. JOSEPH

back to Dr. Fouad Salloum page

كنيسة سيدة القلعة في عكار، ضحية الإهمال، متى تعود قبلة عشاق الآثار والتاريخ؟