back to Dr. Fouad Salloum page

نشر هذا الموضوع في صحيفة النهار بمناسبة الذكرى الـ150 لتأسيس دير مار ضومط للآباء الكرمليين في القبيات.

الدكتور فؤاد سـلوم

دكتوراه في التاريخ

إجازة في اللغة العربية وآدابها

 

تعود نشأة الرهبنة الكرملية الاولى الى العام 1209 للميلاد في اورشليم على يد بطريركها اللاتيني، ايام الصليبيين، سان البير افودارو، ثم خرج الرهبان من أورشليم الى أوروبا مع خروج الصليبيين العام 1238.

 

أصبحت الرهبنة الكرملية على يد القديس يوحنا للصليب وتيريزا الافيلية العام 1568 باسم "الكرمليون الحفاة" فهم بدأوا حفاة شهادة على التقشف، وقد بقينا نشاهد أقدامهم العارية في عز برد الشتاء في صنادل تمسك نعالها شرائح بسيطة من الجلد حتى أمد قريب. لكن تلك الأقدام احتذت، واكتست بالجوارب، ومن اولئك، كرمليو لبنان الذين عادوا الى الشرق ونزلوا وادي قنوبين في اواسط القرن السابع عشر.

 

أما الحضور الكرملي في القبيات فلا يمكن الجزم في تحديده على وجه الدقة. فقبل العام 1835 استقروا هنا، وذلك لغياب الوثائق وان كانت الروايات المتناقلة محليا، ولا يجافيها المنطق، تشير الى حضور محسوس لهم منذ 1828.

 

واما تاريخ استقرارهم في القبيات (1835) فتشير اليه وثيقة مؤرخة العام 1845، محفوظة في أرشيف الدير هي كناية عن عريضة أهلية تتعلق بطلب تعديل ضريبة الخراج عن أملاك الدير وتقول بالحرف: "... هو انه لما كان في وقت تاريخ سنة الف وثمانماية وخمسة وثلاثين في أيام تولي دولة المصريين وبراهيم باشا على ديرة الشامية قد حضر الى قرية القبيات الكاينة في دريب عكار الذي هو من مقاطعات مدينة طرابلس شاء البعض من الرهبان البادرية (هو جمع بادري وهو لفظ ايطالي معناه اب) المتلقبين باسم رهبان الرملتانيين الكاثوليكيين كخاضعين الى البيعة الرومانية الرسولية، ومن حيث وجودهم ومقرهم في أديرتهم الكاينة في بلاد سورية المختصة بتملك المملكة العثمانية أيدها الله في النصر وابدا"...

 

وانما قلنا جازمين باستقرارهم هنا في 1835، فلأنهم تملكوا أرضاً وبنوا عليها أبنية، بعد ان أوقف لهم ارض الدير ابن القبيات جبور سيف حبيش، الذي كوفئ، بعد بناء الكنيسة بالاذن له ولعائلته بان يدفنوا مع الرهبان تحت مذبحها، لكن أحفاده تنازلوا أخيراً عن هذا الحق.

 

وتقول الوثيقة: "... قد تملكوا بقعة ارض في تلك القرية التي تسمى ارض ماري ضوميط المنتقلة لديهم من جبور سيف، وهو انه قد اوقف تلك الأرض المذكورة الى البادرية الكرملتانيين في ايام براهيم باشا بموجب شرعية بيدهم..." وتشير هذه الوثيقة أيضاً الى ان "... لهم النظر أيضاً من حضرة الملك الفرنساوي المعظم..."

كما تشير الى "... انه قد ابتنوا بنايات في حد الكنيسة...".

 

موقع الدير

يقع دير الاباء الكرمليين على تل اثري قديم في وسط القبيات، يشكل لساناً ممتدا بين واديين، "وادي نهر القبيات الشتوي" المتجه من الجنوب الى الشمال، والذي يلتقي عند اقدام الدير بواد يجمع السيول الشتوية من جهة الغرب، وتدل على ذلك القدم لقى اثرية يعود اقدامها الى الالف الثاني قبل الميلاد، بيعت لصالح المتحف الوطني اللبناني في بيروت. وبقي التل عامرا في العهد الروماني، بدلالة الجرار الخزفية العملاقة التي رفع عدد منها وبيع، اضافة الى نقود ذهبية ساعد ثمنها في بناء الدير، على ما جاء في مذكرات احد الرهبان. اما مار ضوميط شفيع الكنيسة الخربة التي كانت في المكان، فهو قديس مشهور في لبنان، فارسي الاصل، استشهد في القرن الرابع الميلادي عهد الامبراطور يوليانوس الجاحد.

 

 

 

بدأ الآباء الكرمليون استقرارهم ببناء غرفتين على رأس التل، واحدة للصلاة واخرى للاقامة. من هذا المبنى البسيط انطلقوا في نشاطهم الروحي في انحاء البلدة معلمين واعظين. ولم يأت العام 1852 الا وارتفعت اعتاب كنيستهم الاولى على اسم السيدة العذراء، وليس على اسم مار ضومط، وعلى عتبة مدخلها الرئيسي نقش تاريخ  1852، الذي اعتبره الآباء اليوم تاريخ استقرارهم الثابت في القبيات، فبدأوا احتفالاتهم هذا العام بذكرى مرور مئة وخمسين عاما على تأسيس ديرهم. ويلفت في بناء الكنيسة هذه، انه خالف التقاليد الشرقية في بناء الكنائس، فكان اتجاه الحنية التي تحضن المذبح الى الشمال، وليس الى الشرق، كما هي الحال في الكنائس المحلية الذي كل مذهب في هذه المنطقة. وثم صارت الكنائس الجديدة تبنى وفق ما تحتمه طبيعة الارض لا التقاليد.

 

شرقي الكنيسة تابع الآباء بناء الدير المخصص لسكنى الرهبان، فأنشأوا طبقة ارضية مقببة واسعة فوق كهف مخصص لنبيذهم الطيب. ولم تغب الهندسة اللاتينية عن هذه الطبقة فجاءت على شكل الدوموس Domus الروماني القديم.

مدخل بين غرفتين عن يمين وشمال يفضي الى باب مواجه، واخر الى اليمين. الباب المواجه يعطي على اثر اتريوم Atrium وهو فسحة سماوية غير مسقوفة، في وسطها انبلوفيوم Impluvium اي البئر. وبئر الكرمليين هذه، ماؤها عذب بارد، لطالما ملأ به الآباء جرار المستقيات من صبايا القبيات، ايام الصيف الحارة. حول الفسحة تلك تتوزع غرف المطبخ والمائدة والمؤونة، ومكتب سيد الدوموس اي رئيس الدير... فوق هذه الطبقة الارضية ترتفع اليوم طبقتان تتوزع فيهما غرف الرهبان وما يخدم السكن الرهباني من انشاءات...

 

وما ان طلع القرن العشرون الفائت حتى بلغ الكرمليون في القبيات شأواً "بعيدا في الازدهار، فباشروا بناء الكنيسة البازيليكية الجديدة شرقي الدير، فبدت رائعة بطرازها القوطي عندما دشنت العام 1914 باحتفال كبير. وها هم اليوم يعيدون اصلاح بعض الاضرار البسيطة التي الحقها الزمن لتستعيد كل جمالها الغابر، وذلك في مناسبة الاحتفال في الذكرى الثانية والخمسين بعد المئة.

 

انجازات رهبانية

 أ- في التربية، من نافل القول الكلام على نشاط روحاني لرهبان الكرمل في القبيات. فهم انما جاؤوا وتعلموا اللغة العربية من اجله، فباشروه في زيارات متقطعة واقامات مؤقتة، قبل ان يستقر بهم المقام (1835). لكن ما هو جدير بالتسجيل نشاطهم التعليمي التربوي الذي بدأوه مبكرين في احدى قاعات الدير شتاء وتحت السنديانة الملاصقة للدير ايام الصحو.

 

 

في البداية كان طلابهم من الذكور حتى العام 1893، ثم قبلوا بعض البنات في1904  واستقدموا الراهبات الكرمليات اللواتي افتتحن مدرسة ابتدائية للبنات فور وصولهن، واخذن على عاتقهن تعليم البنات وتربيتهن في دير الى جانب دير الرهبان.

 

في 1908، كما هو مسجل على العتبة، انتهى الآباء من تشييد المدرسة المخصصة للصبيان، وهي بناء مستقل الى جانب الدير، يتألف من خمس غرف للطلبة، مجهزة بالمقاعد الخشبية والواح الاردواز السوداء المستوردة، وغرفة ادارة وبهو كبير.

 

ضمت هذه المدرسة عند افتتاحها مئة طالب، ولان الانتقال من احياء القبيات المتباعدة كان صعبا على الاطفال في الشتاء، افتتح الرهبان مدرسة مجانية في حي مرتمورة العام 1900، وثانية في حي الغربية 1902.

 

منذ افتتاح الرهبان مدرستهم النظامية، اواسط القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين، لاقوا صعوبات في جذب الطلاب اليهم، لان الاهالي لم يكونوا معتادين على ارسال ابنائهم الى المدارس، وانما كان هؤلاء الابناء يشكلون الايدي  العاملة التي تساعدهم على كسب العيش في رعاية الطروش وفي الحقول حيث مصدر الرزق، يضاف الى ذلك العري والحفي والعوز. فالاولاد، في ذلك الزمان، كانوا ابناء الطبيعة، لا يكسو اجسامهم الا ما يستر العورات. ولقد واجه الاباء الكرمليون ذلك الواقع بتقديم الكسوة والكتب والقرطاسية مجانا. ويظهر من خلال بعض الروايات المعبرة انهم احتضنوا الايتام ووفروا لهم الاكل واللباس، اضافة الى التعليم، اذ عرف عن احد ابناء البلدة انه كان يردد: "انشاالله يموت بيّ حتى يعطوني البادريي كماج" (الكماج خبز افرنجي سميك طيب.(

 

أول 1915 اقفلت المدرسة بسبب الحرب، وانسحب الآباء من القبيات الى ان عادوا في  1918، واعادوا فتح مدرستهم فوراً، متعاونين مع الاساتذة والخوراسقف مخائيل الزريبي وخليل قسطون من القبيات والفرير سليمان من منجز.

 

في 1939 توقفت المدرسة من جديد في انطلاقة واسعة، الى ان صارت اليوم ما يشبه "المدينة التربوية": ابنية حديثة منتشرة على مساحات خضر واسعة تحوطها الملاعب الشتوية، او في الهواء الطلق، مع مسارح داخلية وخارجية، ورياض اطفال وظلال وازهار...

 

ب- في الثقافة: المزاج الايطالي هو وريث المزاجين الروماني واليوناني، لذلك كان الآباء الايطاليون مولعين بالفنون، لا سيما المسرح. فهم منذ استقرت مدرستهم النظامية، بدأوا يدربون طلابهم على الخطابة والتمثيل والاداء، على ما روى آباؤنا عن ادوار لعبوها على مسرح الآباء في اوائل القرن العشرين. ونحن بدورنا، منذ اواسط ذلك القرن، كنا نشاهد مسرحياتهم، مرة او اكثر في العام، حتى انهم استغلوا انحدار ارضهم الزراعية شرقي الدير وحولهما مدرجا في الهواء الطلق مسورا كانت تقام فيه المسرحيات الموسمية وببدل مرتفع لا يقوى عليه العموم، فكنا نتسلق الجدران لنشاهد ما يجري.

 

وعندما انشأوا افواج الكشافة في بداية الستينات من القرن العشرين، ادخلوا تقاليدهم المسرحية الى انشطة الكشافة، فكان هؤلاء، ولا يزالون، يقومون بعرض المسرحيات على انواعها، ومن انتاج مؤلفين محليين في مرات كثيرة، على مسارح الاباء الكرمليين، اضافة الى فنون الاداء من شانسونيه وغنا وتراتيل واسكتشات فكاهية.

 

اما المحاضرات والندوات فقد حفلت قاعاتهم بانواع متعددة منها، قام رهبانهم ببعضها، او محاضرون محليون، كما استقدموا محاضرين كبارا من خارج القبيات، ولم يقصروا في بقية الفنون من رسم ونحت لا سيما الموسيقى، اذ ان قرع الصنوج يرافق معظم الاحتفالات الدينية. لكن شهرتهم كانت في العزف على البيانو والارغن وقد علموه لاجيال عديدة من ابناء القبيات.

 

كذلك دعم الانشطة الرياضية من عروض وكرة طاولة والكرة الطائرة وكرة السلة...

 

ج- في العمل الاجتماعي والعمراني: اسس الآباء الكرمليون، منذ استقرارهم، الجمعيات الدينية اولاً، ثم الجمعيات الخيرية وساعدوا الفقراء والمرضى مباشرة وحاقوا عن المظلومين. جمعياتهم الدينية ضمت اعداد غفيرة من كل الاحياء، وفي اجتماعات دورية، مما عزز اللحمة بين تلك الاحياء في ما بين الاعضاء نوعا من الوئام الاجتماعي والتراحم، وكان جمعية مار منصور أهم جمعياتهم الخيرية التي تحدب على الفقراء وتمد المحتاجين باسباب المعونة.

 

على الصعيد الصحي: كان بعض الرهبان ملما ببعض الاسعافات التي انجدوا بها الناس، لكن عملهم الحاسم على هذا الصعيد كان في استقدامهم طبيبا جراحا بارعا من ايطاليا، في بداية القرن العشرين، وافتتحوا له عيادة في ديرهم، واقاموا الى جانبها صيدلية. كان الطبيب "الكسندر كاسيني" وكان الفرماشاني "الجياني" فكانا يعالجان المرضى مجانا ويقدمان الدواء. وليسهلوا الوصول الى ديرهم ومدرستهم قاموا باعمال عمرانية جزئية، فشقوا طريقا من حي الذوق الى ديرهم، واقاموا جسرا ًحجرياً عالياً على النهر، ومن حي الضهر افتتحوا طريقا واقاموا درجا صاعدا الى تلتهم، كذلك شقوا طريقا الى حي غوايا، فوصلوا الاحياء الثلاثة التي اسست لمدينة القبيات والتي توسعت الى احيائها السبعة.

 

د- في الاقتصاد: صناعة خيوط الحرير كانت معروفة في القبيات منذ مئات السنين، زمن حل الشرانق على دولاب واحد، وذلك للمناخ الوسطي فيها الذي يوائم تمام المواءمة على زراعة التوت. اواخر القرن التاسع عشر وصل الى القبيات بعض تجار الحرير البيارتة الذين اطلق عليهم المؤرخون العثمانيون "فرنجة المياه العذبة "على اعتبار ان سوق الحرير كان يحتكرها في الشرق فرنجة اوروبا. من اؤلئك شركة "بنك فرعون وشيحا" الذين كان قد سبقهم الى عندقت "يوسف رحمة البشراني". آل فرعون احتكروا صناعة الحرير في منطقة القبيات وبرز منهم فيليب بك فرعون الذي لقب "ابو كرباج"، فكان مزارعو التوت والعمال والعاملات تحت رحمته المطلقة ويدعمه اهل السلطة العثمانية واصحاب النفوذ المحلي من حلفائه. رغب الآباء الكرمليون في ان يكسروا هذا الاحتكار فاشاروا على الطبيب الكسندر كاسيني ان ينشىء معملا ينافس آل فرعون وشيحا، وقدموا له ارضاً وماءً للمعمل.

 

قام المعمل ونجح في منافسة معامل فرعون منافسة حادة بدعم الاباء، فحمل اسم "كرخانة الخاذوق" فانكسر الاحتكار وارتاح الاهالي، الى ان خرج آل فرعون نهائيا من استثمار الحرير في المنطقة قبل الحرب الاولى.

 

ومن صناعات الآباء الكرمليين الخاصة صناعة الخمور، لا سيما النبيذ الذي اشتهروا به والذي من اجله زرعوا كروما واسعة واتوا لها بانواع العنب الايطالي واشهره "الموسكاتو" دون نكهة بلونيه العنبري والاسود. كما اغنوا ارضهم بزراعات الثمار والبقول الجديدة على المنطقة والتي انطلقت منهم الى مزارعي البلدة والجوار.

 

ه- في السياحة: حولوا مدرستهم القديمة الى متحف للحيوانات المحنطة لا سيما الطيور والفراشات، وهو متحف فريد من نوعه، يقصده السياح من أنحاء لبنان ويدر دخلا طيبا.

 

 

في الخلاصة: العلم أساس كل نهضة، هذا ما عرفه جيدا الآباء الكرمليون فركزوا عليه. لذلك يمكن التأكيد ان النهضة الاجتماعية التي تتمتع بها القبيات اليوم مدينة بها في شكل أساسي للآباء الكرمليين.

 

الدكتور فؤاد سـلوم

 

Related Link: History: Mar Doumit Monastery

back to Dr. Fouad Salloum page

Ref: الكرمليون في القبيات